سورة المؤمنون - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


يقول الحق جل جلاله: {قد أفلح المؤمنون} أي: فازوا بكل مطلوب، ونالوا كل مرغوب، فالفلاح: الفوز بالمرام والنجاة من المكاره والآلام، وقيل: البقاء في الخير على الأبد، وقد تقتضي ثبوت أمر متوقع، فهي هنا لإفادة ثبوت ما كان متوقع الثبوت من قبل، وكان المؤمنون يتوقعون مثل هذه البشارة؛ وهي الإخبار بثبوت الفلاح لهم، فخُوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه. والإيمان في اللغة: التصديق بالقلب، والمؤمن: المصدِّق لِما جاء به الشرع، مع الإذعان بالقلب، وإلا.. فكم من كافر صدّق بالحق ولم يذعن، تكبُّراً وعناداً، فكل من نطق بالشهادتين، مواطئاً لسانُه قلبَه فهو مؤمن شرعاً، قال عليه الصلاة والسلام: «لَمَّا خَلَقَ الله الجَنَّةَ، قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فَقَالَتْ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤمنُون- ثلاثاً- أنا حرامٌ على كلِّ بخيل مُرائي»؛ لأنه بالرياء أبطل العبادات الدينية، وليس له أعمال صافية.
ثم وصف أهل الإيمان بست صفات، فقال: {الذين هم في صلاتهم خاشعون}: خاضعون بالقلب ساكنون بالجوارح، وقيل: الخشوع في الصلاة: جمع الهمة، والإعراض عما سواها، وعلامته: ألا يجاوز بصرُه مصلاه، وألاّ يلتفت ولا يعبث. وعن أبي الدرداء: (هو إخلاص المقال، وإعظام المقام، واليقين التام، وجمع الاهتمام). وأضيفت الصلاة إلى المصلين؛ لانتفاع المصلِّي بها وحده وهي عُدَّته وذخيرته وأما المُصلَّى له فَغَني عنها.
{والذين هم عن اللغو مُعرضون}، اللغو: كل كلام ساقط، حقه أن يُلغَى، كالكذب والشتم ونحوهما. والحق إن اللغو: كل ما لا يَعني من الأقوال والأفعال، وصفهم بالحزم والاشتغال بما يعنيهم وما يقربهم إلى مولاهم في عامة أوقاتهم، كما ينبىء عنه التعبير بالاسم الدال على الثبوت والاستمرار، بعد وصفه لهم بالخشوع؛ ليجمع لهم بين الفعل والترك، الشاقَّين على النفس، اللذَيْن هما قاعدتا التكليف. {والذين هم للزكاة فاعلون}: مؤدون، والمراد بالزكاة: المصدر، الذي هو الإخراج، لا المخرج. ويجوز أن يراد به العين، وهو الشيء المُخْرج، على حذف مضاف، أي: لأداء الزكاة فاعلون. وصفهم بذلك، بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة؛ للدلالة على أنهم بلغوا الغاية القصوى من القيام بالطاعة البدنية والمالية، والتجنب عن النقائص، وتوسيط الإعراض عن اللغو بينهما؛ لكمال ملابسته بالخشوع في الصلاة؛ لأن من لزم الصمت والاشتغال بما يعني عَظُم خشوعُه وأُنسه بالله.
{والذين هم لفروجهم حافظون}: ممسكون لها، ويشمل فرجَ الرجل والمرأة، {إلا على أزواجهم}، الظاهر أن {على} بمعنى عن أي: إلا عن أزواجهم، فلا يجب حفظها عنهن، ويمكن أن تبقى على بابها، تقول العرب: احفظ عليّ عنان فرسي، أي: أمسكه، ويجوز أن يكون ما بعد الإستثناء حالاً، أي: إلا والين على أزواجهم، من قولك: كان زياد على البصرة، أي: والياً عليها، والمعنى: أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال، إلا في حالة تزوجهم أو تسريهم.
أو يتعلق {على} بمحذوف يدل عليه: {غير ملومين}، كأنه قيل: يُلامون إلا على أزواجهم، أي: يلامون على كل مباشرة إلا على ما أبيح لهم، فإنهم غير ملومين عليه، {أو ما ملكت أيمانهم} أي: سراريهم، وعبَّر عنهن بما؛ لأن المملوك يجري مجرى غير العقلاء، لأنه يباع كما تباع البهائم. وقال في الكشاف: وإنما قال {ما}، ولم يقل مَن؛ لأن الإناث يجرين مجرى غير العقلاء. اهـ. يعني: لكونهن ناقصات عقل، كما في الحديث. وفيه احتراس من الذكور بالملك، فلا يباح إتيانهم والتمتع بهم للمالك ولا للمالكة، بإجماع.
وقوله تعالى: {فإنهم غير مَلومين} أي: لا لوم عليهم في عدم حفظ فروجهم عن نسائهم وإمائهم. {فمن ابتغى وراء ذلك}؛ طلب قضاء شهوته في غير هذين، {فأولئك هم العادُون}: الكاملون في العدوان، وفيه دليل على تحريم المتعة والاستمتاع بالكف لإرادة الشهوة؛ لأن نكاح المتعة فاسد، والمعدوم شرعاً كالمعدوم حساً، ويدل على فساده عدم التوارث فيه بالإجماع، وكان في أول الإسلام ثم نُسخ.
{والذين هم لأمانتهم وعهدهم} أي: لما يؤتمنون عليه، ويُعَاهَدون عليه من جهة الحق أو الخلق، {راعون}: حافظون عليها قائمون بها، والراعي: القائم على الشيء بحفظ وإصلاح، كراعي الغنم. {والذين هم على صلواتهم} المفروضة عليهم {يحافظون}: يداومون عليها في أوقاتها. وأعاد الصلاة؛ لأنها أهم، ولأن الخشوع فيها زائد على المحافظة عليها، وَوُحِّدَت أولاً؛ ليُفاد أَن الخشوع في جنس الصلاة أيَّةَ صلاة كانت، وجُمعت ثانياً؛ ليُفاد المحافظة على أنواعها من الفرائض والواجبات والسنن والنوافل. قاله النسفي.
{أولئك} الجامعون لهذه الأوصاف {هم الوارثون} الأحقاء بأن يُسَمَّوُا وارثين، دون غيرهم ممن ورث رغائِب الأموال والذخائر وكرائمها، وقيل: إنهم يرثون من الكفار منازلهم في الجنة، حيث فوَّتُوها على أنفسهم، لأنه تعالى خلق لكل إنسان منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار، ففي الحديث: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاّ ولَهُ مَنْزِلاَنِ: مَنْزِلٌ في الجنة ومَنْزِلٌ في النَّارِ، فَإِن مَاتَ ودَخَلَ الجَنَّة، وَرٍثَ أَهْلُ النَّارِ مَنْزِله، وإِنْ مَات ودَخَلَ النَّارَ، وَرثَ أَهْلُ الجَنَّةَ مَنْزِلَهُ».
ثم ترجم الوارثين بقوله: {الذين يرثون الفردوس}، هو في لغة الروم والحبشة: البستان الواسع، الجامع لأصناف الثمر، والمراد: أعلى الجنان، استحقوا ذلك بأعمالهم المتقدمة حسبما يقتضيه الوعد الكريم، {هم فيها خالدون}، أنث الفردوس بتأويل الجنة، أو لأنه طبقة من طبقاتها، وهي العليا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال القشيري: الفلاح: الفوزُ بالمطلوب، والظَّفَرُ بالمقصود. والإيمان: انتسامُ الحقِّ في السريرة، ومخامرة التصديق بخُلاصة القلب، واستكمال التحقيق من تامور الفؤاد. والخشوع في الصلاة: إطراق السِّرِّ على بساط النَّجوى، باستكمال نَعْتِ الهيبة، والذوبانِ تحت سلطان الكشف، والانمحاءِ عند غلبات التَّجلِّي. اهـ.
قلت: كأنه فسر الفلاح والإيمان والخشوع بغايتهن، فأول الفلاح: الدخول في حوز الإسلام بحصول الإيمان، وغايته: إشراق شمس العرفان، وأول الإيمان: تصديق القلب بوجود الرب، من طرق الاستدلال والبرهان، وغايته: إشراق أسرار الذات على السريرة، فيصير الدليل محل العيان، فتَبتَهج السريرة بمخامرة الذوق والوجدان، وأوا الخشوع: تدبر القول فيما يقول، وحضوره عندما يفعل، وغايته: غيبته عن فعله في شهود معبوده، فينمحي وجود العبد عند تجلي أنوار الرب، فتكون صلاته شكراً لا قهراً، كما قال سيد العارفين صلى الله عليه وسلم: «أفلا أكون عبداً شكوراً».
ولا تتحقق هذه المقامات إلا بالإعراض عن اللغو، وهو كل ما يشغل عن الله، وتزكية النفوس ببذلها في مرضاة الله، وإمساك الجوارح عن محارم الله، وحفظ الأنفاس والساعات، التي هي أمانات عند العبد من الله.
قال في القوت: قال بعض العارفين: إن الله- عز وجل- إلى عبده سرّيْن يُسِرهما إليه، يُوجده ذلك بإلهام يُلهَمهُ، أحدهما: إذا وُلِد وخرج من بطن أمه، يقول له: «عبدي، قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفاً، واستودعتك عُمرك، ائتمنتك عليه، فانظر كيف تحفظ الأمانة، وانظر كيف تلقاني كما أخرجتك،» وسِرٌ عن خروج روحه، يقول له: «عبدي، ماذا صنعت في أمانتي عندك؟ هل حفظتها حتى تلقاني على العهد والرعاية، فالقاك بالوفاء والجزاء؟ أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب؟» فهذا داخل في قوله عز وجل: {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} وفي قوله عز وجل: {وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] فعُمْر العبد أمانة عنده، إن حفظه أدى الأمانة، وإن ضيَّعه فقد خان، {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} [الأنفال: 58]. اهـ.


قلت: خلق: إن كان بمعنى اخترع وأحدث؛ تعدى إلى واحد، وإن كان بمعنى صَيَّر؛ تعدى إلى مفعولين، ومنه {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً}، ومن بعده.
يقول الحق جل جلاله: {ولقد خلقنا الإنسان}؛ جنس الإنسان، أو آدم، {من سُلالةٍ}؛ {من}: للابتداء، والسلالة: الخُلاصة؛ لأنها تسل من بين الكدر، وهو ما سُلَّ من الشيء واستخرج منه، فإن (فُعالة) اسم لما يحصل من الفعل، فتارة يكون مقصوداً منه، كالخُلاصة، وتارة غير مقصود، كالقُلامة والكناسة، والسلالة من قبيل الأول؛ فإنها مقصودة بالسَّل، وقيل: إنما سمي التراب الذي خُلق من آدم سلالة، لأنه سُلّ من كل تربة. وقوله: {من طين}، بيان، متعلقة بمحذوف، صفة للسلالة، أي: خلقناه من سلالة كائنة من طين.
{ثم جعلناه} أي: الجنس، باعتبار أفراده المتغايرة لآدم عليه السلام، وجعلنا نسله، على حذف مضاف، إن أُريد بالإنسان آدم، فيكون كقوله تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} [السجدة: 8، 7] أي: جعلنا نسله {نطفة}: ماءً قليلاً {في قرار مكين} أي: في مستقر- وهو الرحم- {مكين}: حصين، أو متمكن فيه، وَصف الرحم بصفة ما استقر فيه، مثل طريق سائر، أي: مسير فيه.
{ثم خلقنا النطفة علقة} أي: دماً جامداً، بأن جعلنا النطفة البيضاء علقة حمراء، {فخلقنا العلقة مُضغة} أي: قطعة لحم لا استبانةَ ولا تمايز فيها {فخلقنا المضغة} أي: غالبها ومعظمها، أو كلها {عظاماً}، بأن صلبناها، وجعلناها عَموداً على هيئةٍ وأوضاع مخصوصة، تقتضيها الحكمة، {فكسونا العظام} المعهودة {لحما} بأن أنبتنا عليها اللحم، فصار لها كاللباس، أو كسونا كل عظم من تلك العظام ما يليق به من اللحم، على مقدار لائق به، وهيئة مناسبة. وقرئ بالإفراد فيهما، اكتفاء بالجنس، وبتوحيد الأول فقط، وبتوحيد الثاني فحسب. {ثم أنشأناه خلقاً آخر} أي: خلقاً مبايناً للخلق الأول، حيث جعله حيواناً، وكان جماداً، وناطقاً وسميعاً وبصيراً، وكان بضد هذه الصفات، ولذلك قال الفقهاء: من غصب بيضة فأفرخت عنده ضمِّنَ البيضة، ولم يَرُدّ الفرخ؛ لأنه خلق آخر سوى البيضة.
{فتبارك الله أحسن الخالقين} أي: فتعالى أمره في قدرته الباهرة، وعلمه الشامل. والالتفات إلى الإسم الجليل؛ لتربية المهابة، وإدخال الروعة، والإشعار بأنَّ ما ذكر من الأفاعيل العجيبة من أحكام الألوهية، وللإيذان بأنَّ من حق كل من سمع ما فصَّل من آثار قدرته تعالى أو لاحظه، أن يسارع إلى التكلم به، إجلالاً وإعظاماً لشؤونه تعالى، وقوله: {أحسن الخالقين}: بدل اسم الجلالة، أو نعت، على أنَّ الإضافة محضة؛ ليطابقه في التعريف، أو خبر، أي: هو أحسن الخالقين خلقاً، أي: أحسن المقدرين تقديراً، فحذف التمييز؛ لدلالة الخالقين عليه.
قيل: إنَّ عبدَ اللهِ بنَ أبي سَرْح كان يَكْتُبُ الوحيَ للنبي صلى الله عليه وسلم، فلمَّا انتهى- عليه الصلاة والسلام- إلى قوله: {خلقا آخَر}، سَاَرَعَ عبدُ الله إلى النُطقِ بِذَلِكَ، فَنَطَقَ بذلِكَ، قبل إِمْلاَئِهِ، فَقَالَ له رسُول الله صلى الله عليه وسلم: «اكْتبْ، هَكَذَا أُنْزِلَتْ» فَشَكَّ عبدُ الله، فَقَالَ: إنْ كانَ مُحمدٌ يُوحَى إليْهِ، فَأَنَا يُوحَى إليَّ، فارتدَّ ولَحِق بمكَّةَ كافِراً، ثم أَسْلَمَ يَوْمَ الفَتْحِ. وقيل: الحكاية غير صحيحة؛ لأن ارتداده كان بالمدينة، والسورة مكية.
ثم قال تعالى: {ثم إنكم بعد ذلك} أي: بعد ما ذكر من الأمور العجيبة، حسبما ينبىء عنه ما في اسم الإشارة من البُعد، المشعر بعُلُوِّ مرتبة المشار إليه وبُعد منزلته في الفضل، {لميتون}: لصائرون إلى الموت لا محالة، كما يؤذن به صيغة الصفة، وقرئ {المائتون}، {ثم إنكم يوم القيامة} أي: عند النفخة، {تبعثون} في قبوركم للحساب والمجازاة، فإن قلت: لِمَ أكدَّ الأول بإنّ واللام، وعبَّر بالاسم دون الثاني، الذي هو البعث، والمتبادر للفهم العكس؛ لأن الموت لم ينكره أحد، والبعث أنكره الكفار والحكماء؟ فالجواب كما قال ابن عرفة: إنه من حمَل اللفظ على غير ظاهره، مثل:
جَاءَ شَقِيقٌ عَارضاً رُمْحَه *** إِنَّ بني عَمِّك فِيهِمْ رِمَاحُ
فَهُم، لعصيانهم ومخالفتهم، لم يعملوا للموت، فحالهم كحال المنكر لها، ولمّا كانت دلائل البعث ظاهرة صار كالأمر الثابت الذي لا يُرتاب فيه. اهـ.
الإشارة: اعلم أن الروح لها أطوار كأطوار البشرية، من الضعف والقوة شيئاً فشيئاً، باعتبار قوة اليقين، والترقي إلى العلم بالله ومشاهدته، فتكون أولاً صغيرة العلم، ضعيفة اليقين، تم تتربى بقوت القلوب وغذاء الأرواح؛ فقوتُ القلوب: العمل الظاهر، وقوت الأرواح: العمل الباطن، فلا تزال تتقوت بالعمل الظاهر شيئاً فشيئاً حتى تقوى على كمالِ غايته، ثم تنتقل إلى قوت العمل الباطن؛ كالذكر القلبي، والتفكر والاعتبار، وجولان القلب في ميادين الأغيار، ثم دوام حضور القلب مع الحق على سبيل الاستهتار، ثم يفتح لها ميادين الغيوب، ويوسع عليها فضاء الشهود، فيكون قُوتها حينئذٍ رؤية المحبوب، وهو غاية المطلوب، فتبلغ مبلغ الرجال، وتحوز مراتب الكمال، ومن لم يبلغ هذا بقي في مرتبة الأطفال، ولا يمكن حصول هذا إلا بصحبة طبيب ماهر، يعالجها ويربيها، وينقلها من طور لى طور، وإلاَّ بقيت الروح مريضة لا تتقوت إلا بالمحسوسات، وهي لا تُشبع ولا تُغني من جوع. وبالله التوفيق.


قلت: {سيناء}، مَنْ فتحها: جعل همزتها للتأنيث، فلم يصرفه؛ للتأنيث والوصف، كحمراء، أو لألف التأنيث، لقيامه مقام علتين، ومن كسرها: لم يصرفه؛ للتعريف والعجمة، وهذا البناء ليس من أبنية التأنيث، وإنما ألفُهُ ألف الإلحاق، كعلِباء وجِرباء.
ونبت وأنبت: لغتان بمعنى واحد وكذلك سقى وأسقى.
يقول الحق جل جلاله: {ولقد خلقنا فوقكم سبعَ طرائق}، وهي السموات السبع، جمع طريقة؛ لأنها طرق الملائكة وتقلباتها، وطرق الكواكب، فيها مسيرها {وما كنا عن الخلق غافلين}، أراد بالخلق السموات، كأنه قال: خلقناها وما غفلنا عن حفظها وإمساكها، أو الناس، أي: خلقناها فوقكم؛ لنفتح عليكم منها الأرزاق والبركات، وما كنا غافلين عنكم وعما يصلحكم، أو: خلقناها فوقكم، وما حالت بيننا وبينكم، بل نحن أقرب إليكم من كل شيء، فلا نغفل عن شيء من أمركم، قلَّ أو جلَّ.
{وأنزلنا من السماء ماءً} هو المطر، وقيل: الأنهار النازلة من الجنة، وهي خمسة: سَيْحُون نهر الهند، وَجَيْحونُ نهر بلخ، ودِجْلَةُ والفُراتُ نهرا العراق، والنيل نهر مصر، أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة. اهـ. وقوله تعالى؛ {بقدَرِ} أي: بتقدير، يَسْلَمون معه من المضرة، ويصلون إلى المنفعة، أو بمقدار ما علمنا بهم من الحاجة، أو: بقدر سابق لا يزيد عليه ولا ينقص، {فأسكناه في الأرض} أي: جعلناه ثابتاً قاراً فيها، كقوله: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأرض} [الزمر: 21]، فماء الأرض كله من السماء، {وإنا على ذهاب به} أي: إزالته بالإفساد والتغوير، حيث يتعذر استنباطه، {لقادرون} كما كنا قادرين على إنزاله، وفي تنكير {ذهاب}: إيماء إلى كثرة طرقه، ومبالغة في الإيعاد به، ولذلك كان أبلغ من قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} [الملك: 30].
ثم ذكر نتائجه، فقال: {فأنشأنا لكم به} أي: بذلك الماء {جنات من نخيلِ وأعنابِ لكم فيها} أي: في الجنات، {فواكهُ كثيرةٌ} تتفكهون بها سوى النخيل والأعناب، {ومنها تأكلون} أي من الجنات تأكلون تغذياً، وتفكهاً، أو تُرزقون وتحصِّلون معايشكم، من قولهم: فلان يأكل من حرفته، وهذه الجنة وجوه أرزاقكم منها ترزقون وتتمعشون، ويجوز أن يكون الضميران للنخيل والأعناب، أي: لكم في ثمرتها أنواع من الفواكه، الرطب والعنب، والتمر والزبيب، والعصير والدِّبْسُ، وغير ذلك وطعاماً تأكلونه.
{و} أنبتنا به {شجرةً} هي الزيتون {تخرج من طُور سَيْناء}، وهو جبل موسى عليه السلام بين مصر وأيلة، وقيل: بفلسطين، ويقال: فيه طور سنين، فإمَّا أن يكون الطور اسم الجبل، وسيناء اسم البقعة أضيف إليها، أو المركب منهما عَلَمٌ له، كامرئ القيس، وتخصيصها بالخروج منه، مع خروجها من سائر البقع، إما لتعظيمها، أو لأنه المنشأ الأصلي لها؛ لأن أصل الزيتون من الشام، وأول ما نبت في الطور، ومنه نُقل إلى سائر البلاد، {تَنْبُتُ بالدُّهن} أي: متلبسة بالدهن، أي: ما يدهن به، وهو الزيت، {وصِبْغِ للآكلين} أي: إدام لهم، قال مقاتل: جعل الله في هذه إداماً ودُهناً، فالإدام: الزيتون، والدهن: الزيت.
وقيل: هي اول شجرة تنبت بعد الطوفان، وخص هذه الأنواع الثلاثة؛ لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأنفعها.
{وإنَّ لكم في الأنعام}، جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم، {لَعِبْرَةً} تعتبرون بها، وتستدلون بأحوالها على عظم قدرة الله تعالى، وسابغ نعمته، وتشكرونه عليه، {نُسقيكم مما في بطونها} من الألبان سائغة للشاربين، أو مما استقر في بطونها من العلَف؛ فإنَّ اللبن يتكون منه، {ولكم فيها منافعُ كثيرةٌ}، سوى الألبان، وهي منافع الأصواف والأوبار والأشعار. {ومنها تأكلون} أي: من لحومها، {وعليها} أي: على الأنعام في البر، {وعلى الفُلك} في البحر {تُحملون} في أسفاركم ومتاجركم، والمراد بالأنعام في الحمل الإبل؛ لأنها هي المحمول عليها في البر، فهي سفائن العرب، كما قال ذو الرمة:
سَفِنَةُ بَرِّ تَحْتَ خَدِّي زِمَامُهَا ***
يريد ناقته. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ولقد خلقنا فوق قلوبكم سبعة حجب، فمن خَرقَها أفضى إلى فضاء شهود ذاتنا وأنوار صفاتنا، وهي حجاب المعاصي والذنوب، وحجاب النقائص والعيوب، وحجاب الغفلات، وحجاب العوائد والشهوات، وحجاب الوقوف مع حلاوة المعاملات، وحجاب الوقوف مع الكرامات والمقامات، وحجاب حس الكائنات، فمن خرق هذه الحجب بالتوبة والتزكية واليقظة والعفة والرياضة، والأنس بالله والغيبة عما سواه، ارتفعت عنه الحجب، ووصل إلى المحبوب. قال الورتجبي: أوضح سبع طرائق لنا إلى أنوار صفاته السبعة. اهـ. وقال القشيري: الحق- سبحانه- لا يستتر من رؤيته مُدْرَكٌ، ولا تخفى عليه من مخلوقاته خافية، وإنما الحُجُبُ على أبصارِ الخَلْق وبصائرهم، والعادةُ جاريةٌ أنه لا يخلق لنا الإدراك لِمَا وراء الحُجُب، ولذلك أدخِلَت الغفلةُ القلوبَ، واستولى عليها الذهول، سدَّت بصائرها، وغيبت فهومها، ففوقها حجب ظاهِرة وباطنة ففي الظاهر: السموات حجبٌ تحول بيننا وبين المنازل العالية وعلى القلوب أغشية وأغطية، كالشهوة والأمنية، والإرادات الشاغلة والغفلة المتراكمة.
ثم ذكر أن طرائق المريدين الفَتْرَة، وطرائق الزاهدين ترك عُروق الرغبة. قال: وأما العارفون فربما تظلهم في بعض أحيانهم وقفةٌ في تضاعيف سيرهم إلى ساحات الحقائق، فيصيرون موقوفين ريثما يتفضّلُ الحقُّ- سبحانه- عليهم بكفاية ذلك، فيجدون نفاذاً، ويدفع عنهم ما عاقهم من الطرائق، وفي جميع ذلك فالحق- سبحانه- غير تاركٍ للعبد ولا غافلٍ عن الخلق. اهـ.
وقوله: {وما كنا عن الخلق غافلين} أي: وما كنا غافلين عن إرسال من يخرجهم من تلك الحجب القهرية، بل بعثنا الرسل، وفي أثرهم العارفين الربانيين، يُخرجون من تعلق بهم من تلك الطرائق، ويوصلونهم إلى بحر الحقائق. وأنزلنا من سماء الغيوب ماء العلم اللدني، فأسكناه في أرض النفوس والقلوب، بقدر ما سبق لكل قلب منيب، وإناعلى ذهاب به من القلوب والصدور لقادرون.
ولذلك كان العارفون لا يزول اضطرارهم، ولا يكون مع غير الله قرارهم، فأنشأنا بذلك العلم في قلوب العارفين جنات المعارف من نخيل الأذواق والوجدان، وأعناب خمرة العيان، لكم فيها فواكه كثيرة، أي: تمتع كثير بلذة الشهود، ومنها تتقوت أرواحكم وأسراركم، وشجرة المعرفة تخرج من القلوب الصافية، التي هي محل المناجاة، كطور موسى، أي: تنبت فيها ويخرج أغصانها إلى ظاهر الجوارح، تنبت في القلب بدهن الذوق والوجد، وصبغ للآكلين، أي: المريدين الآكلين من تلك الشجرة، فتصبغ قلوبهم بالمعرفة واليقين.
وقوله تعالى: {وإن لكم في الأنعام لعبرة}، قال القشيري: الإشارة فيه: أنّ الكدوراتِ الناجمةَ المتراكمةَ لا عِبْرَةَ بها ولا مبالاة، فإنَّ اللَّبنَ الخالص السائغَ يخرجُ من أخلاف الإبل والأنعام، من بين ما ينطوي حواياها عليها من الوحشة، ولكنه صافٍ لم يؤثر فيها بُحكم الجِوار، والصفا يوجد أكثره في عين الكُدروة؛ إذ الحقيقة لا يتعلق بها حق ولا باطل. ومَنْ أَشرف على سِرِّ التوحيد تحقَّقَ بأنَّ ظهور جميع الحدثان من التقدير، فتسْقُط عنه كلفة التمييز؛ فالأسرارُ عند ذلك تصفو، والوقت لصاحبه لا يجفو، {ولكم فيها منافع} لازمةٌ لكم، ومتعدية منكم إلى كلِّ متصلٍ بكم. انتهى على لحن فيه، فتأمله.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7